ماذا أنتم فاعلون؟

على كثرة ما تم تسريبه عبر موقع ويكيليكس من وثائق فإن شيئاً مفاجئاً أو مدهشاً لم أصادفه حتى الآن. ما الجديد فى الكشف عن أن حكام العالم الديمقراطى الغربى الذين يدللون القطط والكلاب لا يأبهون لأرواح البشر طالما كانوا من بلدان وأجناس أخرى؟ وما الجديد فى معرفة أن هيلارى كلينتون وتونى بلير يعيشان على المال العربى السائب؟ وأين هو الخبر فى التعاون الاستراتيجى بين إسرائيل ومعظم الدول العربية؟ إن الوثيقة المفاجئة بحق هى التى قد تكشف أن أحد سلاطين العرب قد سلك سلوكاً وطنياً رفيعاً فى أحد المواقف فتمسك بحقوق شعبه أو تعفف عن مد يده إلى المال العام.. هذه هى نوعية الوثائق التى يصبح كشفها قنبلة الموسم، أما الأخبار الأخرى المتعلقة بالهوان والاستخذاء وبيع الأشقاء والغدر بهم فإنها لا تمنح الأخ «جوليان أسانج»، صاحب الموقع، ما قد يتوقعه من إعجاب!.

لكن على أى الأحوال، فإن من فضائل هذا التسريب توثيق المعلومات التى كنا نسمعها بشكل متناثر، وكانت تجد من ينفيها بجسارة رغم وضوحها.

الآن يكشف الأخ أسانج عن حقيقة من صنعوا تنظيم داعش بعد أن رأينا دول العالم كلها تحاربه وتعمل على إبادته وتلقى أطناناً من القنابل على مواقعه، فإذا بالأمور تنكشف ونعرف أن أشد الدول تظاهراً بمعاداة تنظيم الدولة الإسلامية هى التى موّلته وسلحته وقامت بتدريبه.

كنا فى الماضى نضطر إلى الانتظار ثلاثين سنة أو أكثر حتى تكشف الدول الغربية عن الوثائق المخفية.. الآن اختصر أسانج المدة وتكفل موقع ويكيليكس بإذاعة الوثائق الخاصة بأحداث الأمس القريب بوثائقها وهى مازالت بنار الفرن!.

أما عن اللهفة والفرحة الكبيرة التى يتلقف بها القراء حول العالم التسريبات اليومية من ويكيليكس، فإنها تستدعى وقفة للتأمل، ذلك أن حق الدول والحكومات فى صيانة أسرارها هو حق أصيل يتعين احترامه لأسباب يطول شرحها، وأن اقتحام هذه الأسرار يشكل مخالفة قانونية وأخلاقية لأنه يلحق الضرر بالدولة المفضوحة ويعرض مصالحها للخطر، لكن فى اعتقادى أن ما يبرر هذه الفرحة وتلك الشماتة التى يتلقى بها القارئ فى الغرب الديمقراطى تسريبات ويكيليكس هو أن الجمهور هناك بات يشعر بأنه يتعرّض للخديعة على يد حكامه، وأصبح يعتقد أنهم يستغلون قوانين سرية المعلومات من أجل التعتيم على ممارسات غير نظيفة واللعب فى الظلام من خلف ظهر الشعوب. أما عن الدول التى يحكمها الطغاة فإن شعوبها تتلقف نفس الوثائق بفرحة طاغية لسبب آخر وهو شعورها بأن هؤلاء الحكام الذين أوغلوا فى جرائمهم يتعرضون الآن للفضح بكشف أفعالهم وتعرية مواقفهم التى طالما أنكروها، ومن ثم فإنهم يواجهون الآن الحرج البالغ والشعور بالعار، وهو الأمر الذى يسعد هذه الجماهير بالتأكيد.

لكن لعل مما يبدد هذه الفرحة فى مقبل الأيام ردود الفعل الباردة والبليدة التى أتوقع أن يواجه بها الحكام ما يتسرب عنهم من فضائح ومخاز. بل إننى لا أبالغ إذا قلت إنهم قد يستخدمون كل ما يستوجب إدانتهم أمام شعوبهم فى الكيد لهذه الشعوب وملء قلوب الناس بالحسرة بعد أن يقولوا لهم: نعم.. نحن أنذال.. فماذا أنتم فاعلون؟