حسن البطل
«أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت» . ربما أنظر إلى الخلائق كما نظر داروين. لكن ذلك الجمل الصغير (القاعود) حدجني بنظرة لن أنساها.
قد أهرب من نظرته إلى ما قاله الشاعر: «ما للجمال مشيها وئيدا / أجندلاً يحملن أم حديدا».. لكن ذلك «القاعود» كان معداً للذبح، قوائمه الأمامية وقدماه مقيدتان، وكان يرغي ويزبد كما الأسود تزأر.
رأيت خرافاً وانعاماً تُنحر، وسمعت عن كيف ينحرون الإبل، لكن لم أر، بعد نظرة هذا «القاعود» في حلحول لن أرى، فقد توهمت بأنه حدّجني بنظرة القتيل إلى القاتل، او الآكل الى المأكول.
مرّة واحدة في حياتي تناولت كباباً من لحم الجمل مع والدي في العام ١٩٥٦، وبقي الطعم تحت أسناني سنوات حتى العام ٢٠٠١، وعندما زرت حلحول تمنيت على صديقي أن نتناول كباباً من «لحم القاعود».
التهمت أول سيخ، و«قطمة» من السيخ الثاني، عندما سمع صاحبي في الغرفة المجاورة شيئاً لم يكن «كالثغاء» قال: سيذبحون قاعوداً آخر. مانعتُ فأصرّ مضيفي .. ثم حدجني هذا القاعود بنظرة زلزلتني، وقطعت شهيتي عن إكمال الأكل.
في وليمة أولمها صديقي لابنتي الطفلة في عيد ميلادها، كان هناك خروف صغير مشوي ومحشي، فصرخت الابنة. هذا خروف وليس لحمة.
أنا لست لاحماً ولست نباتياً، واكتفي من وليمة الأعراس التقليدية بقطعة واحدة صغيرة، نصف مدهنة من اللحمة.
يفترض أن أذهب الجمعة (أكتب هذا الخميس لينشر السبت) إلى الخليل، حيث ستزف المهندسة الخليلية علا إلى صديقي حاتم وهو من غزة، ورفضت اسرائيل اعطاء تصريح لشقيقه الكبير المهندس في غزة ليحضر عرس أخيه. لا بدّ من حضور ما تيسّر من أصحاب العريس.
شيئان في بالي: المشوار الربيعي الى الخليل، في يوم ربيعي حقاً، والنيّة في تناول لحم كباب «القاعود» مرة ثالثة .. ربما لأنسى نظرة ذلك القاعود.
سمعت قصصاً عن صبر الجمل، وعن ذاكرته، وعن انتقامه من الأذى، ومنها أن جمّالاً أساء معاملة جمل في قطيعه، وقبل أن يأوي ليلاً في الخلاة؟ رأى نظرة مريبة في عين الجمل المكلوم، فقام من فراشه بعد أن وضع مخدّات فيه، وراح ينتظر خلسة انتقام الجمل، الذي هجم على الفراش و«دبك» عليه بأقدامه وجسمه، وحط عليه بكلكله .. وما أن برز الجمال من مخبئه، حتى «طق الجمل» .. ومات قهراً.
كانت «دوما» قرية صغيرة، وصارت بلدة، والآن هي مدينة حرب بين النظام والمعارضة السورية، لكنها لما كانت قرية على حافة الغوطة الشرقية، كان جمّالو البادية يقصدونها بقطعان من الإبل والنوق.
كان لبعض بيوت القرية باب خشبي واسع من خشب صلب مع حديد، وكان الباب مثلث الفتحات. فتحة كبرى ليمّر منها الفلاح ممتطياً جمله. فتحة كبيرة ليمّر منها الفلاح ممتطياً حماره. فتحة صغيرة ليمّر منها راجلاً.
لم يكن بيت الصافي سوى باب صغير، وكان فيه شباب «قبضايات» أو «سكرت»، ولما جاء جمّال مع قطيعه يسأل عن بيت «يبرّك» فيه قطيعه دلّه رجل مشهور بالمزاح إلى بيت الصافي ولولا صلحة عشائرية بين المزّاح وقبضايات بيت الصافي لصارت هناك جريمة قتل ثورّت ثارات.
تعرفون أن الفلاح يحثّ حماره بعبارة «حا» لكن كان الجمالون في الغوطة يحثون إبلهم مطلقين عبارة غريبة «هوريوب .. هوريوب».
يتناول البعض رأس الخاروف بعد طهيه وكذا اقدامه، لكن البعض يقف عن تناول رأس الجمل وأقدامه، وخصوصاً المسلمين الشيعة، وفسرت أمي الأمر بأن الجمل كان مطية الرسول في دخول مكة، أي أنه أطلّ عليها برأسه، ووطئ أرضها بأخفافه.
يبدأ اللحامون بيع لحم الجمل بدءاً من عنقه وينتهون بـ «قاعوده» أي مؤخرته الطرية.. ولذلك يسمون لحم صغار الإبل بـ «القاعود» حيث يقعّى الجمل ويبرّك.
كان الجمل «سفينة الصحراء» وصارت مطيّة أهل الصحراء سيارات دفع رباعي، ورياضة سباق النوق، وموضة حليب النوق.
.. ويستوردون الجمال من استراليا .. ويشيعون للرسول أن من علامات القيامة أن يبطر الحفاة العراة من سكان الصحراء .. والله أعلم!