الصين ليست في عجلةٍ من أمرها
palestinetoday palestinetoday palestinetoday
palestinetoday
Al Rimial Street-Aljawhara Tower-6th Floor-Gaza-Palestine
palestine, palestine, palestine
آخر تحديث GMT 08:54:07
 فلسطين اليوم -

الصين ليست في عجلةٍ من أمرها

 فلسطين اليوم -

الصين ليست في عجلةٍ من أمرها

علي الجرباوي
بقلم : علي الجرباوي

ينهمر علينا كل يوم سيلٌ من التحليلات والتوقعات، وحتى التنبؤات التي يشتمل بعضها على توظيفات لنظرية المؤامرة، وجميعها تستشرف مستقبل العالم في عصر ما بعد «كورونا»، وخاصة مستقبل النظام الدولي والعلاقات الدولية. يُعبّر هذا السيل، والذي يعكس حالة القلق العام من وضع العالم حالياً، عن فكرة أساسية مفادها أن العالم لن يعود إلى عهده السابق لانتشار وباء كورونا، وأن تغيّرات ستطرأ عليه بسبب ذلك. قد يكون هذا التوقع صحيحاً، فالكثير من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحتى الفلسفية والنفسية، تأثرت ولا تزال بفعل ما يمّر به العالم حالياً من مواجهة شاملة مع هذا العدو الخفي. ولكنّ المثير للانتباه، وللقلق المعرفي، أن الكثير من هذه الاستشرافات يأتي بصيغة تقريرية يقينية حاسمة لا تترك مجالاً للاحتمالية، وكأن المسار المستقبلي للعالم قد تحددّ منذ الآن.

في الرؤى الاستشرافية يوجد فرق شاسع بين التوقع والحتمية. فالتوقع يفتح المجال للإمكانية، ما يتيح الفرصة للتفكُر والبحث واستقراء المتغيرات من أجل تدعيم الاستنتاجات. أما الحتمية فتغلق الباب على الاحتمالية، وتذهب باتجاه المطلق من الأحكام، ما يُنهي ضرورة الاستزادة في عملية البحث والاستقصاء. فالحتميات تأتي وكأنها حقائق قطعية مطلقة لا نقاش بشأنها، بينما تشكّل التوقعات البوابة العريضة للافتراضات التي تحتاج إلى بحث وإثبات.
من الأمثلة على ما يتم التداول به حالياً من حتميات عصر ما بعد «كورونا» التأكيد على موت الليبرالية، وانتهاء العولمة، وتهميش دور المنظمات الدولية والإقليمية، وتفكك الاتحاد الأوروبي، وتصاعد انغلاقية الدول وازدياد حمائيتها للذات، وتراجع المكانة الدولية للولايات المتحدة وحلول الصين قوة عظمى بديلة عنها. كل ما ذُكر يمكن، بل ويجب، أن يدخل في مجال الاحتمالات الممكنة التي من الضروري استقصاء الإمكانية المستقبلية بشأنها، ولكن لا يجوز استباق ذلك والاعلان عن هذه الاستشرافات كحقائق مثبتة وقادمة بعد انتهاء العالم من محنة هذا الوباء.

سأخصص بقية هذا المقال لفحص واحدة من هذه الاستشرافات، والتي تؤكد حلول الصين مكان الولايات المتحدة كدولة عظمى بديلة في النظام الدولي القادم بعد انقضاء المحنة. وافتراضي في هذا السياق أن الصين لا تسعى لذلك الآن، وليست بوارده لأنه لا يخدم مصالحها على المدى القصير، ما يعني أنها ستستمهل هذا السعي، حتى لو أصبح متاحاً، وتخضعه لرؤيتها وخطتها الاستراتيجية بعيدة المدى.ليس خافياً على متابعي الشأن الصيني أن الصين دولة كبرى صاعدة. فمنذ وفاة ماو تسي تونغ واستلام دينغ شياو بينغ، صاحب الفكر التعديلي للاشتراكية الماوية، دفة القيادة عام 1978، وبدئه بتطبيق نموذج «الاشتراكية ذات الخصائص الصينية» القائم على إيجاد نظام سياسي اشتراكي يرعى اقتصاد السوق، والصين تحقق قفزات كبرى متوالية في مسيرتها التنموية والنهضوية. استطاعت الصين في أربعة عقود أن تُخرج مئات الملايين من مواطنيها من دائرة الفقر، وأن تضاعف معدل دخل الفرد السنوي عدة مرات ليبلغ ما ينوف عن تسعة آلاف دولار، وأن تحقق نهضة كبيرة في بناها التحتية والصناعية، وأن تقفز باقتصادها ليصبح ثاني أكبر اقتصاد بالعالم بعد الولايات المتحدة الأميركية. وقد أدت هذه الإنجازات إلى تحسين متصاعد في مستويات التعليم والصحة في البلاد، وازدياد نسبة التمدن فيها، وإحداث نمو متسارع لطبقة وسطى جديدة وحيوية، ما جعل الصين تصبح أكبر سوق استهلاكي في العالم، وعزز بالتالي قدراتها الإنتاجية.

للمحافظة على المستويات السنوية المرتفعة لنمو اقتصادها اللازم لتدعيم استمرار عملية بناء وتحديث القطاعات الحيوية الأخرى، التعليمية والصحية والتنموية والبيئية، اعتمدت الصين بشكل رئيسي على الانفتاح العالمي في عصر العولمة، ليكون الأداة الأساسية الفعالة لتنمية وتوسيع تجارتها الدولية وتنشيط صناعاتها في مختلف المجالات. عقدت الصين شراكات واسعة ومهمة مع العديد من الشركات العالمية، تم بموجبها فتح مقرات ومصانع لها في البلاد. كما عقدت شراكات تجارية مع عدد كبير من دول العالم، ما أدى إلى تسارع وتيرة نمو صادراتها ووصولها إلى معدلات سنوية هي الأعلى عالمياً. وتوّجت الصين هذه الاعتمادية الترابطية بإطلاق «مبادرة الحزام والطريق» عام 2013، ورصدت لها مئات المليارات من الدولارات، من أجل ربط الصين بوجهات تجارية في مختلف أنحاء العالم. باختصار، تعتمد الصين في استمرار صعودها على استمرارية انفتاح العالم على بعضه، وعلى تدفق التجارة الحرّة، وعلى تواصل اعتمادية اقتصادات الدول وأسواقها المالية على بعضها البعض. العولمة، إذاً، هي الرئة التي تتنفس الصين من خلالها، وتحافظ بها على استمرار حياتها.

ليس خافياً أيضاً على متابعي الشأن الصيني أن الصين تتذمر منذ سنوات من النظام الدولي الحالي الأحادي القطبية، ومن استمرار استئثار الولايات المتحدة وتسلطها في إدارة الشؤون الدولية. وليس سرّاً أنها تسعى إلى تحويل هذا النظام الذي تعتبره مجحفاً إلى نظامٍ متعدد الأقطاب يكون لها فيه نصيب مشاركة أوسع وأهم على الصعيد الدولي مما هو عليه الحال الآن. لذلك نجدها تدفع، بدبلوماسية متزنة، هادئة، وطويلة النفس، باتجاه تشكيل خطاب خاص بها يحمل نظرتها عن الكيفية التي يجب أن تُنظم بموجبها الشؤون الدولية. هذا الخطاب يتميز بإيجابية الطرح، وتشاركية الرؤية، وتفاؤلية النظرة للمستقبل، وبالتالي يختلف عن الخطاب الغربي السائد حالياً. وبانتهاج منهج براغماتي صرف، تهتم الصين بتنمية علاقاتها الثنائية مع دول العالم المختلفة. كما تسعى بحثاثة لخلق وتعزيز الروابط الإقليمية، وتزيد من انخراطها في القضايا الدولية متعددة الأغراض، وتقوم بمحاولات جاهدة ومستمرة لتعزيز دور ومكانة الأمم المتحدة، وتدعم العمل من خلال، ومع، المؤسسات الدولية.

كل ما تقوم به الصين من مجهودات على هذه الصعد المختلفة يأتي في محاولة مركّزة منها، ولكن بتنفيذٍ هادئ، تستهدف تطويق الولايات المتحدة وزعزعة مكانتها على الصعيد الدولي. وقد تكون الطريقة الناجعة التي عالجت بها الصين انتشار وباء كورونا في البلاد، على خلاف تلكؤ الإدارة الأميركية وظهور عجزها في تلبية الاحتياجات الطبية الضرورية لمواجهة هذا الانتشار، أعطت الكثيرين من المراقبين الإشارة على تفوق الصين على أميركا، والايذان بأن النظام الدولي لا بدّ وأن يشهد انقلابا بعد انتهاء تفشي الوباء. ولكن يجب الانتباه إلى أن مصلحة الصين في المحافظة على ما حققته حتى الآن من مكتسبات على الصعيدين الداخلي والخارجي، من جهة، وضرورة استكمال ردم الهوّات في مسيرتها التنموية داخل البلاد، من جهة ثانية، يتطلب منها تفادي فتح مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة حالياً. فهي تعي أن عليها واجب استكمال الكثير من المستلزمات الضرورية قبل الوصول إلى مرحلة تصبح فيها جاهزة لمثل هذه المواجهة. وجميع الدلائل تشير إلى ذلك، وإلى أن الصين غير مستعدة أو راغبة بالدخول في المواجهة المصيرية الآن. وخير مثال على ذلك أنها واجهت الحرب التجارية التي شنّها عليها الرئيس الأميركي مؤخراً بحزم، ولكن ليس بصدامية متهوّرة، بل كانت توجهاتها توفيقية وتراضوية.

لا تُخفي الصين رغبتها أو سعيها للوصول إلى قمة النظام الدولي، ولكنها لن تتهور وتجازف بانتهاز فرصة قد تُرى وكأنها مواتية الآن، وهي ليست كذلك. وقد كانت الصين قد أعلنت للملأ خلال انعقاد المؤتمر التاسع لحزبها الشيوعي عن خطتها الاستراتيجية للوصول إلى تلك القمة، والتي تتطلب منها المرور في ثلاث مراحل. الأولى كان مخططاً لها أن تنتهي عام 2020 بالقضاء الشامل على الفقر في البلاد، وسيتأخر تحقيق ذلك بسبب تفشي الوباء. والثانية تنتهي عام 2035 بتحقيق وصول الصين إلى مقدمة الدول المبتكرة في العالم. أما المرحلة الثالثة والأخيرة فتُخطط الصين لبلوغها في عام 2050، ذلك العام الذي تُكرّس فيه وجودها كقوة رائدة تتربع على قمة الهرمية الدولية.

للصين خطة تعمل بموجبها بطريقة تعديلية، وليس انقلابية، لتغيير وضعية مكانتها ودورها في النظام الدولي، وهي تقوم بتنفيذها بكثير من التصميم والحزم والصبر والامتثال. هذه هي المنهجية التي حققت للبلاد ما وصلت إليه من تقدم حتى الآن، ومن المرجح أن تبقى تسير على النهج ذاته في قادم الأيام.لن يأتي عصر ما بعد «كورونا» بالصين لتتبوأ مباشرة قمة الهرمية الدولية، ولكنها ستكون مع منتصف القرن هناك.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الصين ليست في عجلةٍ من أمرها الصين ليست في عجلةٍ من أمرها



GMT 14:39 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

007 بالمؤنث

GMT 14:37 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

هل هي نهاية الخلاف السعودي ـ الأميركي؟

GMT 14:31 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

الجنرال زلزال في سباق أنقرة إلى القصر

GMT 03:38 2023 السبت ,04 آذار/ مارس

في حق مجتمع بكامله

أفكار تنسيقات العيد مع الأحذية والحقائب مستوحاة من النجمات

القاهرة ـ فلسطين اليوم
مع اقتراب العيد، تبدأ رحلتنا في اختيار الإطلالة المثالية التي تجمع بين الأناقة والأنوثة، وتعد الأكسسوارات من أهم التفاصيل التي تصنع فرقاً كبيراً في الإطلالة، وخاصةً الحقيبة والحذاء، فهما لا يكملان اللوك فحسب، بل يعكسان ذوقك وشخصيتك أيضاً، ويمكن أن يساعدا في تغيير اللوك بالكامل، وإضافة لمسة حيوية للأزياء الناعمة، ولأن النجمات يعتبرن مصدر إلهام لأحدث صيحات الموضة، جمعنا لكِ إطلالات مميزة لهن، يمكنكِ استلهام أفكار تنسيقات العيد منها، سواء في الإطلالات النهارية اليومية، أو حتى المساء والمناسبات. تنسيق الأكسسوارات مع فستان أصفر على طريقة نسرين طافش مع حلول موسم الصيف، تبدأ نسرين طافش في اعتماد الإطلالات المفعمة بالحيوية، حيث تختار فساتين ذات ألوان مشرقة وجذابة تتناسب مع أجواء هذا الموسم، وفي واحدة من أحدث إطلالاتها، اختا...المزيد

GMT 04:42 2025 الأربعاء ,07 أيار / مايو

حظك اليوم برج الدلو الأربعاء 07 مايو/ أيار 2025

GMT 11:38 2020 الثلاثاء ,12 أيار / مايو

سامسونج تنافس أبل في خدمات الدفع الإلكتروني

GMT 07:49 2019 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

تساعدك الحظوظ لطرح الأفكار وللمشاركة في مختلف الندوات

GMT 05:21 2017 الإثنين ,04 كانون الأول / ديسمبر

تعرّض اللاجئين "الروهينغا" للإجبار على تجارة "البغاء"

GMT 23:34 2025 الجمعة ,17 كانون الثاني / يناير

فوائد الرمان الصحية وكيفية دمجه في نظامك الغذائي

GMT 18:32 2019 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

مهرجان بكين السينمائي يرحب بقادة صناع الترفيه الأميركية

GMT 23:29 2017 الإثنين ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

الحاجة كريستينا ... وحرب «العم» بلفور

GMT 10:48 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

14 وفاة و1088 إصابة جديدة بفيروس كورونا في فلسطين

GMT 10:57 2019 السبت ,26 كانون الثاني / يناير

هازارد يؤكّد أن هيغواين سيكون إضافة قوية لـ"تشيلسي"

GMT 05:16 2018 الإثنين ,24 كانون الأول / ديسمبر

السعودية تعين الروبوت "تقني" موظفًا في وزارة التعليم

GMT 18:34 2018 الأربعاء ,19 كانون الأول / ديسمبر

نجيب ساويرس يوجّه رسالة إلى الفنانة هيفاء وهبي

GMT 01:45 2018 الأربعاء ,20 حزيران / يونيو

مئير بن شبات يبحث ملف "الجنوب السوري" في موسكو
 
palestinetoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

palestinetoday palestinetoday palestinetoday palestinetoday