د. حنا عيسى
لم يكن انتهاء الاختصاص القضائي اخر مراحل تطور النظام القنصلي. ذلك ان التجارة الخارجية اصبحت في الوقت الحاضر من اهم دعائم الاقتصاد الوطني لاغلب الدول, وان المصالح الاقتصادية لكل جولة اصبحت ترتبط وتتأثر الى حدٍ كبير بعلاقاتها السياسية بالدول الاخرى, مما دفع الحكومات الى ان تعهد بحماية هذه المصالح بصفة عامة الى ممثليها الدبلوماسيين, والى ان تضم لهذا الغرض الى بعثاتها الدبلوماسية موظفي ذوي دراية خاصة بالشؤون الاقتصادية والتجارية, هم الملحقون التجاريون. واذا كانت حماية التجارة والملاحة مازالت كمبدأ عام ابرز نواحي المهام القنصلية, فان اظطلاع الملحقين التجاريين بالكثير من الاختصاصات في هذا المجال قد ادى عملاً الى انصراف نشاط القناصل بالاكثر الى المسائل الادارية والتنظيمية التي يعهد بها اليهم.
كذلك كان للاوضاع الاقتصادية الحديثة في كثير من الدول, اثرها في حصر مهمة القناصل في ذلك النطاق الضيق. ففي البلاد الرأسمالية حيث تركز الصناعات الهامة في يد عدد من المؤسسات الكبرى, توفد هذه المؤسسات عادة الى الخارج, لرعاية مصالحها وبيع وتسويق منتجاتها, ممثلين لها من ذوي الدرايات الفنية التي لا تتوفر لدى القناصل, وبذا لا تكون في حاجة الى الاستعانة بهؤلاء الا كوسطاء عند الاقتضاء بين ممثليها والسلطات والجهات المحلية.
انما يلاحظ من ناحية اخرى انه في البلاد التي لا يكون لدولة القنصل فيها بعثة دبلوماسية, يظل القنصل يمارس اختصاصاته الاقتصادية والتجارية في حدودها العامة التي يقرها له القانون الدولي التقليدي, بل وكثيراً ما يعهد اليه كذلك ببعض المهام السياسية, وذلك خلاف الشؤون الادارية والتنظيمية التي تدخل في نطاق عمله الاصلي. يضاف الى ذلك ان تقدم وسائل المواصلات الجوية واتساع دائرتها كان من شأنه توسيع مهام القنصل الى حد ما, اذ اصبح القناصل مكلفون بالاهتمام بشؤون الملاحة الجوية بدولهم, واصبحت عليها في هذا المجال واجبات معينة تنص عليها في الوقت الحاضر التعليمات او اللوائح القنصلية في مختلف الدول.
ويبدو مما تقدم ومن تتبع التطور التاريخي للنظام القنصلي منذ نشأته ان طبيعة ونطاق ومشمول المهام القنصلية كانت ومازالت تتحدد باحتاجات التبادل الاقتصادي والاجتماعي بين الدول, وان هذا النظام يعكس الى حد كبير خصائص هذه الاحتياجات في كل مرحلة من مراحل تطوره, وانه يستجيب تماماً في مرحلته الحالية, مع ما يطرأ عليه من تعديلات, للحاجات الاقتصادية والاجتماعية للحياة الدولية الحديثة.