غزة _ عبد القادر محمود
يعتبر"بيت السقا الأثري"، الواقع وسط سوق شعبي تتعالى فيه أصوات الباعة والمشترين شرق غزة وبالتحديد في حي الشجاعية، من المعالم الصامدة كصمود أهل الحي، يتجسد على جدرانه معاني الحضارة والتراث الجميل وبساطة العيش آنذاك. ويحيط بالبيت سوق الشجاعية وأسواره منصّعة بالأحجار الرملية والأسقف الرخامية الرومانية، وهو ذو ساحة قديمة ونوافذ مقوسة أعلاها، وأدراج إذا قصدتها تطلعك على أقواس وأنصاف القباب التي تجسدت فيها معاني الحضارة.
ويعد البيت أحد رموز الحضارة والآثار التي تزين غزة وتعبر عن ماضيها المشرق، وتجسد حديثًا أبرز الأماكن التي شهدت صمود أهل حي الشجاعية في حروب غزة السابقة.
وفي زيارة مراسل "فلسطين اليوم" إلى البيت، تحدث أبو ناهض حلس، (85عامًا) وهو من كبار مخاتير حي الشجاعية عن أصل حكاية بيت السقا: "يعود البيت لعامل بسيط في مزرعة اسمها الطوابين، وكانت له قطعة أرض بجوار عمارة سعيد الشوا "، وأشار أبو ناهض إلى الحكاية من أيام حملة إبراهيم باشا لفلسطين وسورية التي استغرقت عشرة أعوام، عندما سرق أحد حراس الباشا "قدرة الذهب" التي كانت تعد كرواتب لجيشه.
وأضاف أبو ناهض: "بعد سرقتها يخفيها الحارس في مزرعة الطوابين التي يعمل فيها السقا، ويُعدم الحارس بمدفع الباشا، وتطوى الحكاية، ويَكتشف أمرها السقا، فيبتسم القدر له، ويقرر بناء بيت يضاهي عمارة الشوا، ويطلب من بنّاء العمارة أن يشيد هذا البيت، ليغدو من الأغنياء ويتوارثوا البيت جيلًا بعد جيل.
من جهته، أفاد أبو تيسير السقا أحد أصحاب هذا البيت، بأن البيت يعود إلى الحقبة العثمانية، توارثته أجيال العائلة من الآباء والأجداد ليبلغ عمره (350 عامًا)، موضحًا أن مساحته تبلغ 700 متر حيث تم تطويره على مدار الأعوام السابقة إلى ما وجد عليه بصورته الحالية الآن.
وأكد السقا على سعيهم لتحويل البيت إلى متحف أثري يحمل التاريخ الثقافة الفلسطينية، مبينًا أن البيت غير مناسب للسكن لأنه يقع وسط سوق الشجاعية، ونظرًا لضيق الشوارع هناك.
وأشار إلى الجهود المبذولة تجاه هذه البيوت في غزة لكنها غير كافية لأنها تحتاج إلى تمويل، فالمؤسسات غير قادرة على الاهتمام بها إلا لفترات محدودة، مؤكدًا على ضرورة تخصيص برنامج من قبل الحكومة للاهتمام بهذا البيت وغيره من بيوت غزة الأثرية مثله مثل آثار العالم.
من جانبه، أبرز مدير دائرة الآثار في وزارة السياحة والآثار المهندس أحمد البرش، أن البيوت الأثرية تعود إلى الحقبة العثمانية وجزء منها يعود إلى الحقبة المملوكية والتي بلغت حوالي أكثر من 100 بيت أثري في البلدة القديمة لمدنية غزة موزعة على الأحياء المختلفة منها حي التفاح والشجاعية والدرج وحي الزيتون التي تكثر فيها البيوت الأثرية.
وأوضح أن بيوت غزة القديمة جزء أساسي من أعمال وزارة السياحة والآثار، مردفًا: "لذا قمنا بتسجيل هذه الآثار سواء المنقولة أو الثابتة وعملية التسجيل هي جزء من عملية الحفاظ".
وبيّن البرش أن الوزارة تعمل من خلال مشاريع على ترميم هذا البيوت والأماكن الأثرية بشكل دوري، خصوصًا بعض الأضرار التي لحقت بهذه البيوت نتيجة الحرب الأخيرة على القطاع.
وعن الجهات المانحة ذكر البرش: "لا يمكن إغفال دور المؤسسات الداعمة، خصوصًا المؤسسات الأجنبية التي ترعى حماية التراث الثقافي في العالم"، معتبرًا أن فلسطين جزء من الاتفاقيات التي وقعت تحت مظلة "اليونسكو" لحماية التراث.
ونوّه إلى طبيعة عمل المؤسسات الدولية التابعة لـ "اليونسكو" التي لا تعامل مع الجهات المختصة في غزة نظرًا لفرض الحصار الدولي على غزة واعتبار الحكومة في غزة غير شرعية ما يجمد عمل المؤسسات الدولية في حماية التراث الأمر الذي أدى إلى تدهور حالة التراث بشكل كامل في غزة.
من جهتها، أكدت منسقة المشاريع في جمعية زاخر لتنمية قدرات المرأة فادية محيسن على ضرورة الاهتمام بهذه الأماكن الأثرية التي تعبر عن الحضارة والتراث الفلسطيني، مبينة أن التاريخ والآثار لا يسلط عليها الضوء.
وأضافت محيسن: "عندما استأجرنا البيت من إيوان كانت المسؤولية الملقاة علينا أن نحافظ عليه وذلك بعدم وضع أي شيء على الجدران من زينة ولوحات تراثية حتى تبقى الجدران كما هي منذ نشأتها، بالإضافة إلى عمليات الصيانة لأي شيء يتعطل نحن المسؤولون عنه، كذلك نعمل على حراسة ومتابعة البيت ليلًا حفاظًا على أمنه".
وعن ربط نشاطات الجمعية بهذه الأماكن استطردت محيسن: "في شهر آذار 2015 عملنا مبادرة يوم الأرض في بيت السقا الأثري حيث كانت فكرة جديدة وذلك لربط يوم الأرض بتراثنا وضرورة المحافظة عليه وتعريف الناس بالأماكن الأثرية في غزة وتشجيعها على الزيارات لهذه البيوت".
من جانبه، شدد المؤرخ الفلسطيني سليم المبيض على أهمية استثمار هذه البيوت كنواد ثقافية لتكون منارة تشع بعلوم الأجداد ليتوارثها الأحفاد.
وأكد المبيض أن هذه البيوت بمثابة شهادات بإزاء عدو ينافس على الأرض، لأن الأرض هي الهوية، وما على الأرض من آثار ومساجد وزوايا وتكايا.
بدوره، أفاد منسق المشاريع في مركز "إيوان" المهندس محمود البلعاوي، بأن الاهتمام بالبيوت الأثرية يمثل جزءًا من الهوية الثقافية، ومعروف بأن المباني الأثرية والتراث العمراني يشكل الجزء الأهم من مفردات التراث الثقافي لأنه هو الشيء المادي الملموس الذي من خلاله يعبر أي مجتمع عن حضارته وبالتالي يجب الاهتمام به.
وأشار البلعاوي إلى أن أي مؤسسة تهتم بهذا الشأن لا بد أن تقوم بالحصر والتوثيق، وهذا الجهد قام مركز "إيوان" منذ أن تأسس فقام بجمع المباني الأثرية القديمة في غزة حتى يتم وضع الآلية للاهتمام بهذه الأماكن.
ولفت إلى أن وزارة السياحة هي الجهة المسؤولة عن الأماكن الأثرية القديمة لكنهم ليست الجهة الممولة، بل شركاء في كل مشاريع الترميم التي تحصل لأي مبنى في غزة للحفاظ على التراث العمراني.
وأردف البلعاوي: "نعمل على إحياء البيوت الأثرية القديمة وإعمالها لوظيفة مجتمعية تناسب الجمهور وتقدم خدمة لهم لتأتي له العامة والوفود من الجامعات والمدارس والجمعيات وفرق شبابية لزيارة المكان لإظهاره للناس بقيمته الحضارية".
ويذكر أن "إسرائيل" كقوة احتلال ملزمة ببنود حماية التراث الثقافي والطبيعي في القانون الدولي الإنساني، وخصوصًا اتفاقية لاهاي لعام 1907، واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949.
ويبقى بيت السقا بمثابة أرشيف لحقبة تاريخية مهمة في حياة الشعب الفلسطيني قبل الاحتلال الإسرائيلي إبان العهد العثماني، مما يزيد أهمية الحفاظ عليها كشهادة إثبات لتجذر الفلسطينيين بأرضهم.